كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وما قيل أن هذه الآية نزلت في نسخ التبني لا صحة له.
لأن اللّه لم يسمه ابنا قط فيما أنزل على رسوله قبل، ولم يمنع التبني في هذه الآية وانما منع اسم البنوة عنه فقط، فلا محل لدعوى النسخ، قال تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبائهمْ} إذا كانوا معروفين وهذا {هُوَ أَقْسَطُ عنْدَ اللَّه} واعدل من أن تنسبوهم لأنفسكم كذبا لأنهم لهم آباء غيركم {فَإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإخْوانُكُمْ} أي ادعوهم بلفظ الأخ، فتقول يا أخي ويا ابن أخي على عادة العرب أيضا في نداء بعضهم بعضا، وهذا أحسن من قول الناس الآن لابن الغير يا ولدي يا ابني، وأصدق لأن الناس كلهم أخوة {في الدّين} وإخوة في الخلق إذا لم يكونوا على دين واحد {وَمَواليكُمْ} بأن تقولوا إذا ساقتكم الأنفة من تسميتهم إخوانا فقولوا يا مولاي، والمولى يطلق على السيد والعبد لغة، وقيل فيه:
ولن يتساوى سادة وعبيدهم ** على أن اسماء الجميع موالي

قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فيما أَخْطَأْتُمْ به} قبل النهي قصدا لأنكم لا تعلمون انه ينهى عنه كما لا يؤاخذكم إذا أخطأتم بعد النبي سهوا أو نسيانا {وَلكنْ} الذي يؤاخذكم عليه هو {ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} عليه وعملتم به بعد النهي ففيه الإثم عليكم {وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا} ولم يزل لمن يخطىء أو يجرم إن شاء {رَحيمًا} (5) بعباده يعاملهم بعفوه وحلمه.
روى البخاري ومسلم عن سعد ابن أبي وقاص وأبي بكرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال: من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة حرام عليه.
وجاء عنه ملعون من ادعى إلى غير مواليه، ملعون من انتسب لغير آبائه.
ولهذا ورد عنه صلّى اللّه عليه وسلم الناس مأمونون على أنسابهم.
وبعد أن تبين أن الذي ينتسب إلى غير آبائه ملعون لا يتصور أن يجرؤ قصدا على الانتساب زورا لغير آبائه، ويختار اللعن استحقاقا بنصّ الحديث المار ذكره، وعليه فان من أراد أن يكذب وينتسب قصدا أو رياء ليظهر للناس انه ذر نسب فيستحق اللعن وما هو بنافعه، لأن من لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور لا بنسب ولا بغيره، على أن الأدب قد يغني عن النسب فيما يريده.
قال غسان بن سعيد في ذلك:
من خانه حسب فليطلب الأدبا ** فقيه منيته إن حل أو ذهبا

فاطلب لنفسك آدابا تعزّ بها ** كيما تسود بها من يملك الذهبا

أما النسب فلا يغني عن الأدب، راجع الآية 101 من سورة المؤمنين في ج 2 وما ترشدك اليه.
ورويا عن ابن عمر قال أن زيد بن حارثة مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزلت هذه الآية فانتهينا.
قال تعالى: {النَّبيُّ أَوْلى بالْمُؤْمنينَ منْ أَنْفُسهمْ} أي بعضهم من بعض فتكون طاعتهم له أولى من طاعة أنفسهم، لأنه لا يدعوهم إلا إلى ما فيه نفعهم.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: ما مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا أن شئتم هذه الآية، فأيما مؤمن ترك مالا فلترثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا بفتح الضاد عيالا فليأتني فأنا مولاه؛ أي أوف عنه دينه وأعول عياله.
وهو صلّى اللّه عليه وسلم لقد وكل خير اهل {وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ} لأن نكاحهن محرم على المؤمنين كافة بعده على التأييد كما سيأتي فمن هذه الجهة جاز تسميتهنّ أمّا ويستفاد من الآية انهن لسن بأمهات للنساء بل للرجال خاصة، لما روي عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة، يا أمة، فقالت لست لك بأم، إنما أنا أم رجالكن والآية خاصة فيهن لا تتناول أخواتهن أو بناتهن، ولا جميع أقاربهن لجواز زواجهن بهم {وَأُولُوا الْأَرْحام بَعْضُهُمْ أَوْلى ببَعْضٍ} على ترتيب الإرث، وكذلك في الميراث، وهذه كالآية من آخر سورة الأنفال المارة.
قالوا كان المسلمون يتوارثون بينهم لأن الرسول آخى بينهم، وبقي ذلك إلى نزول آية الأنفال، فصار الإرث للأقرب نسبا أو رحما، وذلك لأن المسلمين كثروا وجاءوا بأهاليهم من دار الحرب إلى دار الإسلام، فصاروا يتوارثون بينهم بالأولوية ومن جهة الدين، لأن أقاربهم كانوا كفارا أو في دار الحرب، وان اختلاف الدين والدار مانعان من الإرث كالرق والكفر، وقبل نزولها كانوا يتوارثون فيما بينهم لأن إخوانهم المؤمنين الذين هم معهم في دار الإسلام أولى بإرثهم من أقاربهم الكفرة والذين في دار الحرب.
ولا نسخ في هذا البتة لأن الأمر كما ذكر، ولأن ما كانوا يتعاملون به بينهم لم ينزل فيه قرآن، ولأن آية الأنفال لم تعقب بما تعقبت به هذه الآية بل ختمت بقوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ بكُلّ شَيْءٍ عَليمٌ} وان اختلاف الدار مانع من الإرث عند أبي حنيفة وعليه العمل حتى الآن والأولوية هذه ثابتة ازلا {في كتاب اللَّه} بسابق حكمه ومدون في لوحه إن أولي الأرحام أولى {منَ الْمُؤْمنينَ وَالْمُهاجرينَ} المتآخين قبلا في حق الولاية الدينية التي وقعت بعد الهجرة، وهذا هو الأولى والأحق بالإرث {إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إلى أَوْليائكُمْ مَعْرُوفًا} بأن توصوا إليهم بشيء من أموالكم فلا جناح عليكم بذلك، وهذا الحكم محق ثابت مستمر إلى الأبد، إذ يجوز للرجل أو المرأة أن يوصيا بشيء من مالهما لأقاربهما الذين لا يرثون ولخدمهما وعبيدهما وأصدقائهما وغيرهم من الأقارب غير المسلمين راجع الآية 180 من سورة البقرة المارة، وقوله صلّى اللّه عليه وسلم لا وصية لوارث {كانَ ذلكَ} المذكور في هذه الآية من التوارث وغيره {في الْكتاب} الأزلي المحفوظ عند اللّه {مَسْطُورًا} (6) مثبتا، وقد أنزلناه عليكم الآن لتعملوا به.
وهذا أيضا من التدريج في الأحكام الملمع إليه في المقدمة جريا على سنن الكون وتغيراته، واللّه أعلم بما ينزل، واعلم بحاجة الناس ومصلحتهم.
قال تعالى: {وَإذْ أَخَذْنا منَ النَّبيّينَ ميثاقَهُمْ} بتبليغ ما أرسلوا به ردعوة الناس إليه {وَمنْكَ} يا سيد الرسل {وَمنْ نُوحٍ وَإبْراهيمَ وَمُوسى وَعيسَى ابْن مَرْيَمَ} وسائر النبيين أيضا أخذنا هذا العهد، وإنما خص هؤلاء الخمسة على جميعهم الصلاة والسلام لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وأولو العزم المتفق عليهم، راجع آخر سورة الأحقاف ج 2 في بحثهم وقدّم محمدا في الذكر مع أنه آخرهم بعثا ووجودا تشريفا له وتفضيلا واشارة إلى أنه أول الخلق معنى وذكرا، فقد روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال كنت أول النبيّين في الخلق وآخرهم في البعث وهذا الحديث مستقى من هذه الآية لأنها تدل على أنه أول خلق اللّه بدليل أخذ هذا العهد {وَأَخَذْنا منْهُمْ ميثاقًا غَليظًا}.
(7) على الوفاء بما عهد إلى جميع النبيين الذين هم أولى خلق اللّه به {ليَسْئَلَ} اللّه تعالى يوم السؤال في الموقف العظيم {الصَّادقينَ عَنْ صدْقهمْ} للّه وفي اللّه وباللّه ولأنفسهم والمرسل إليهم {وَأَعَدَّ للْكافرينَ} بهم الجاحدين ما جاؤهم به {عَذابًا أَليمًا} (8) في الآخرة عدا عذاب الدنيا، قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نعْمَةَ اللَّه عَلَيْكُمْ إذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ} قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير حينما تحزبوا على المؤمنين في منتصف شوال السنة الخامسة من الهجرة بعد غزوة بني النضير الواقعة في السنة الرابعة منها التي سيأتي ذكرها أول سورة الحشر الآتية إن شاء اللّه {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهمْ} أي الجنود المتحزبة الباغية عليكم {ريحًا} شديدة بدليل التنكير كما سترى من فعلها في القصة الآتية {وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْها} ولم تعلموها وإنما تشاهدون أثرها وفعلها فيهم {وَكانَ اللَّهُ بما تَعْمَلُونَ بَصيرًا} (9) ناظرا لما عملتموه من الخندق كي تتحصنوا به من عدوكم وعالما بثباتكم وحسن نيتكم وثقتكم برسولكم واعتصامكم معه بحبل اللّه هذا على القراءة بالتاء على الخطاب، وعلى القراءة بالياء على الغيبة يكون المعنى بصيرا بما يعمله الكفار من السعي لإطفاء نور اللّه الذي أظهره على أرضه ببعثة محمد واذكروا أيها المؤمنون {إذْ جاؤُكُمْ} بنو غطفان وأسد ويهود قريظة برياسة مالك بن عون النضري وعيينة بن حصن الفزاري وطلحة ابن خويلد الأسدي وحيي بني احطب {منْ فَوْقكُمْ} من أعلى الوادي من قبل المشرق {وَمنْ أَسْفَلَ منْكُمْ} من بطن الوادي من قبل المغرب وهم قريش وكنانة برياسة أبى سفيان بن حرب وجاء أبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي ومن تبعه من قبل الخندق.
واذكروا أيها المؤمنون تلك الحالة التي صورتكم بها أعداؤكم من الكفار والمنافقين واليهود إذ ضاقت صدوركم ذرعه {وَإذْ زاغَت الْأَبْصارُ} عن مستوى نظرها لشدة الرعب وعظم الرهب {وَبَلَغَت الْقُلُوبُ الْحَناجرَ} لأن الرنة تتنفخ من كثرة الفزع بسرعة الزفير والشهيق فيرتفع القلب بارتفاعها إلى الحنجرة وصرتم تختبطون {وَتَظُنُّونَ} أيها المؤمنون {باللَّه} ربكم الذي وعدكم النصر والظفر {الظُّنُونَا} (10) المختلفة من كل على حسب يقينه وعقيدته ونيته والمخلصون منكم قد جزموا بنصر اللّه والذين دونهم سكتوا وضعيفو الإيمان ترددوا والمنافقون قطعوا بأن المؤمنين سيغلبون ويستأصلون والكافرون واليهود تهيأوا للفنك والغنيمة لأنهم رأوا أن المؤمنين صاروا بحوزتهم ففرحوا وصفّقوا وتكلموا بينهم كيف يقتسمون الرجال والمال والأنعام والأثاث.
{هُنالكَ} في تلك الساعة الرهيبة في تلك اللحظة العسرة {ابْتُليَ الْمُؤْمنُونَ} بالصبر والثبات والتوكل على اللّه ولكنهم ازعجوا {وَزُلْزلُوا زلْزالًا شَديدًا} (11) واضطربوا اضطرابا بليغا وماج بهم الخوف موجا عظيما بسبب احاطة العدو بهم ولولا قوة إيمان حلت بهم من اللّه لسلموا ولكن كبير ثقتهم باللّه وعظيم صدقهم بوعده أحدثا في قلوبهم السكينة وتوقع نصر اللّه لهم دون تفككهم لأن منهم من جاهر بما يغضب اللّه ورسوله وهم المشار إليهم بقوله: {وَإذْ يَقُولُ الْمُنافقُونَ} عبد اللّه بن سلول ومتعب بن قشير وأضرابهم {وَالَّذينَ في قُلُوبهمْ مَرَضٌ} شك وريبة لضعف إيمان وعقيدة وقلة يقين وتصديق منهم، وقالوا: {ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} بالنصر على الأحزاب وبملك كسرى وقيصر واليمن {إلَّا غُرُورًا} (12) أي إنهما غرونا بقولهم ذلك وموهوا علينا بتوسيع بلادنا لأن أحدنا الآن لا يستطيع أن يجاوز رحله {وَإذْ قالَتْ طائفَةٌ منْهُمْ} أي المنافقين ومن والاهم كأوس بن قبطي وأصحابه {يا أَهْلَ يَثْربَ} اسم لأرض المدينة وما حولها سميت باسم يثرب من العماليق، وقد نهى صلّى اللّه عليه وسلم أن تسمى المدينة بهذا الاسم لأن معناه غير لايق بها بعد أن شرفت بسيد الكائنات لأنه مأخوذ من التثريب بمعنى التقريع والتوبيخ، وسماها صلّى اللّه عليه وسلم طيبة لأنها كانت وخمة كثيرة الأمراض فطابت بسكنى الطيبين بها وزال عنها ما كان فيها {لا مُقامَ لَكُمْ} في هذا المكان أي محل القتال {فَارْجعُوا} إلى منازلكم واتركوا معسكر الرسول ولا تقاتلوا معه إذ لا قبل لكم بهذه الأحزاب المحيطة بكم {وَيَسْتَأْذنُ فَريقٌ منْهُمُ} من الذين مع الرسول أيضا وهم بنو حارثة وبنو سلمة {النَّبيَّ يَقُولُونَ} ينتحلون سببا للمغادرة من موقع القتال {إنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ} خالية لا أحد فيها وهي مما يلي العدو ونخشى عليها السرقة، فأذن لنا نذهب نحافظها، فكذبهم اللّه بقوله: {وَما هيَ بعَوْرَةٍ إنْ يُريدُونَ إلَّا فرارًا} (13) من القتال وتقليل سواد المسلمين والغدر بهم {وَلَوْ دُخلَتْ} تلك البيوت من قبل الأحزاب {عَلَيْهمْ} أي المحتجين المذكورين {منْ أَقْطارها} أي المدينة {ثُمَّ سُئلُوا الْفتْنَةَ} الرجوع إلى الكفر والارتداد عن الدين الحنيف {لَآتَوْها} حالا مسرعين لضعف إيمانهم باللّه وقلة يقينهم بوعده وشكهم في كلام الرسول ولأجابوا داعي الفتنة وافتتنوا في دينهم وكفروا {وَما تَلَبَّثُوا بها} أي الإجابة إلى داعي الفتنة ولا تفكروا ولا ترددوا {إلَّا يَسيرًا} (14) بقدر ما يكون به إعطاء الجواب ولم يتوقفوا أو يتأخروا، لأن إيمانهم صوريا لم تنشر به قلوبهم {وَلَقَدْ كانُوا} هؤلاء الطوائف الأربعة {عاهَدُوا اللَّهَ منْ قَبْلُ} رؤيتهم الأحزاب وقبل غزوة الخندق على أنهم {لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ} للأعداء وقد نقضوا عهدهم هذا فهربوا وتركوا المؤمنين وأولهم بنوا حارثة الذين احتجوا بتلك الحجة الواهية {وَكانَ عَهْدُ اللَّه مَسْؤُلًا} (15) عنه في الآخرة أكثر مما يسأل عنه في الدنيا ويوبخ عليه فيهما.
وهذه المعاهدة وقعت بينهم وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وإنما أضافها اللّه تعالى لنفسه الكريمة، لأن معاهدة رسوله معاهدة لحضرته المقدسة، ولأن الرسول لم يعاهد إلا بأمر ربه وقد نصوا في هذه المعاهدة على عدم الفرار فنكثوا ولهذا يقول اللّه إذ رأوا أنهم لم يسألوا عن ميثاقهم هذا في الدنيا فإنهم لابد من أن يسألوا عنه في الآخرة {قل} يا سيد الرسل لهؤلاء كلهم {لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفرارُ إنْ فَرَرْتُمْ منَ الْمَوْت أَو الْقَتْل} إذا كان كتب عليكم {وَإذًا لا تُمَتَّعُونَ} بعد فراركم هذا {إلَّا قَليلًا} (16) بقية مدة آجالكم في الدنيا، ويا حبيبي {قُلْ} لهم أيضا {مَنْ ذَا الَّذي يَعْصمُكُمْ منَ اللَّه إنْ أَرادَ بكُمْ سُوءًا} قتلا أو غيره {أَوْ} من يمسك فضله إن {أَرادَ بكُمْ رَحْمَةً} نصرا أو غيره أي لا أحد يقدر على شيء من ذلك غيره {وَلا يَجدُونَ لَهُمْ منْ دُون اللَّه وَليًّا وَلا نَصيرًا} (17) يمنعهم مما قدر عليهم، بل لابد نائلهم قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوّقينَ منْكُمْ} المثبطين الناس عن نصرة الرسول {وَ} يعلم {الْقائلينَ لإخْوانهمْ} وهم ابن سلول وأصحابه {هَلُمَّ إلَيْنا} تعالوا نحونا واتركوا محمدا وأصحابه لأنهم مغلوبون لا محالة فلو كانوا لحما لابتلعهم أبو سفيان وأصحابه لأن محمدا وأصحابه بالنسبة إليهم كأكلة رأس، فتراهم يا حبيبي يقولون هذا القول البذيء {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ} أي الحرب {إلَّا قَليلًا} (18) بقدر ما يرون موقعها ثم ينصرفون عنها، وهؤلاء المنافقون شديد والبخل على المؤمنين ولهذا يقول اللّه تعالى: {أَشحَّةً عَلَيْكُمْ} بأن تنصروا وتغلبوا وتغنموا، ولذلك فإنهم لا يأتون الحرب إلا إتيانا قليلا لينظروا من الغالب {فَإذا جاءَ الْخَوْفُ} من قبل العدو {رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ} يا سيد الرسل {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ} في موقعها يمينا وشمالا من شدة الرعب ترى أحدهم {كَالَّذي يُغْشى عَلَيْه منَ الْمَوْت} أي مثل دوران عين المحتضر {فَإذا ذَهَبَ الْخَوْفُ} وأمنوا لقاء العدو {سَلَقُوكُمْ} خاطبوكم مخاطبة عنيفة في مقاسمة الغنائم يقولون قاتلنا معكم وناضلنا عنكم وبنا غلبتم عدوكم {بأَلْسنَةٍ حدادٍ} سليطة ذرية تفعل بالمخاطب فعل الحديد بالرجل وتراهم {أَشحَّةً عَلَى الْخَيْر} أي الغنيمة يشاقون المؤمنين فيها فلا يريدون أن يتركوا شيئا إلا قاسموهم عليه وطالبوهم فيه ولو عقال بعير {أُولئكَ} الذين هذه صفتهم {لَمْ يُؤْمنُوا} بقلوبهم، ولا عبرة بما نطقت به ألسنتهم من الإيمان لأنه رياء وخوف من أن تقتلوهم {فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ} التي عملوها من جهاد وغيره {وَكانَ ذلكَ} الإحباط وعدم انتفاعهم من أعمالهم {عَلَى اللَّه يَسيرًا} (19) هينا جدا شأنه شأن غيره، إذ لا يعسر على اللّه شيء، وهم عند اللّه كذلك لا وزن لهم ولا قيمة ولا مكانة {يَحْسَبُونَ} هؤلاء المنافقون الخاسرون {الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا} ينهزموا لشدة جبنهم ويعتقدون ثباتهم ومقاومتهم المؤمنين، مع أن هزيمتهم لابد منها تأييدا لوعد اللّه الذي وعده المؤمنين على رغم أنف المنافقين والكافرين {وَإنْ يَأْت الْأَحْزابُ} مرة ثانية {يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ} أي يتمنون أن يكونوا في البادية ليأمنوا على أنفسهم منهم لشدة فزعهم من الموت بأن يكونوا {في الْأَعْراب} بينهم في البادية لا بالحاضرة مع أهل المدينة وتراهم عن بعد {يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائكُمْ} وما آل إليه أمركم {وَلَوْ كانُوا فيكُمْ ما قاتَلُوا إلَّا قَليلًا} (20) بما يقدمون به عذرهم وارائتهم أنفسهم للناس أنهم مع المجاهدين.
فيا أيها المنافقون: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُول اللَّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وقدوة صالحة بأن تنصروا دين اللّه وتعلوا كلمته وتصبروا على ما يصيبكم مثله، لا أن تتخلفوا عنه وتنخزلوا من سواده وتهربوا من الجهاد، ولكن هذه القدوة ما أنتم لها بأهل ولا ترجى منكم لأنها لا تكون إلا {لمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخرَ} إيمانا صادقا وإيقانا خالصا عن نية حسنة {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثيرًا} (21) في السراء والضراء عن عقيدة صالحة لا المنافقين الذين يؤمنون بألسنتهم فقط ولا يذكرون اللّه إلا قليلا رياء وسمعة.
وبعد أن وصف اللّه المنافقين بما وقع منهم وبما هم عليه نعت المؤمنين بما سيصدر منهم فقال جل قوله: {وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} من النصر والظفر قد آن أوانه {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} بما وعدا وهذا بمقابلة قول المنافقين ما وعدنا اللّه ورسوله إلا غرورا {وَما زادَهُمْ} مجيء الأحزاب وإحاطتهم بهم وتثبيط المنافقين هزيمتهم {إلَّا إيمانًا} باللّه ورسوله {وَتَسْليمًا} (22) لأمرهما وانتظارا لوعدهما.
قال تعالى: {منَ الْمُؤْمنينَ رجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْه} من الثبات للقاء العدو عكس المنافقين إذ زادهم اللقاء جبنا وإنكارا لما وعدهم اللّه ورسوله وتكذيبا وجحودا، أما هؤلاء الكرام {فَمنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ} فمات شهيدا في واقعة أحد المارة وفاء بنذره وعهده وميثاقه على الاستمرار في القتال حتى النهاية {وَمنْهُمْ مَنْ يَنْتَظرُ} الشهادة، ويتوقعها باشتياق للفوز بما عند اللّه من الكرامة للشهداء المار ذكرهم في الآية 169 من آل عمران والآية 157 من البقرة المارتين، والأوبة بالسعادة {وَما بَدَّلُوا تَبْديلًا} (23) ما في وعدهم بل ثبتوا عليه وقاموا به ووقوه كاملا {ليَجْزيَ اللَّهُ الصَّادقينَ بصدْقهمْ وَيُعَذّبَ الْمُنافقينَ إنْ شاءَ} إذ لا حتم عليه في تعذيب الكافر ولا جزم عليه في إثابة المؤمن {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهمْ} بأن يشرح صدورهم للإيمان فيدخلهم الجنة بفضله {إنَّ اللَّهَ كانَ} ولن يزال {غَفُورًا} لمن يشاء من عباده {رَحيمًا} (24) بمن شاء منهم لا قيد عليه في شيء أبدا {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذينَ كَفَرُوا بغَيْظهمْ} وحنقهم وقبض صدورهم وضيق ذرعهم وانكماش وجوههم واكفهرار ألوانهم {لَمْ يَنالُوا خَيْرًا} نصرا ولا ظفرا ولا غنيمة من المؤمنين البتة بل نكسوا على رءوسهم وردوا على أعقابهم مدحورين {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمنينَ الْقتالَ} بتسليط الريح العظيمة التي لم تقاوم لأنها من غضب اللّه أعاذنا اللّه منه والجنود التي أرسلها اللّه على الأحزاب الغير مرثية لا نعلمها نحن، وإنما يعلمها الذي أرسلها وهربوا غاضبين بعضهم على بعض لما وقع بينهم من الخلاف وسوء الظن الآتي ذكره في القصة {وَكانَ اللَّهُ قَويًّا} لا يقاوم {عَزيزًا} (25) لا يغلب ولهذا شتتهم وطردهم دون قتال.